logo
ومن أحياها.. | نحو غذاء صحي للجميع
6th September 2021 By sdsa
blog

ومن أحياها..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حرصت الشريعةُ الإسلاميةُ على البناء الجَسَدي للإنسان وجعلته أصلاً تُبنَى عليه قضيةُ العبادةِ والعمارةِ في الأرض، ومِن ثَمَّ جعلت الحفاظَ على حياة الإنسان من المقاصد الكليةِ الخمسةِ التي تدورُ عليها كلُّ تفاصيلِ الأحكامِ الشرعيةِ في العباداتِ والمعاملات، كما عظَّمت الشريعةُ الإسلاميةُ شأنَ المحافظين على حياة الإنسان والعاملين على إنقاذه من أسباب الهلاك، فهم بإنقاذ هذا الإنسانِ كمن أحيا الناس جميعًا فضلاً وقدرًا، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فقد جاء في التفاسير أن معنى الإحياءِ في الآية الكريمة هو استنقاذُ النفسِ من الهَلَكَة، وجدير بالذكر التأكيدُ على أن هذا المبدأَ الأصيلَ هو أمرٌ مشتركٌ بين الأديان السماوية الثلاثة.

وقد كان من أبرز وجوه هذا الإحياءِ والبناءِ والحفاظ على الحياة قضيةُ الغذاءِ وإطعامُ الطعام، من خلال إخراجِ الناس من خطر الجوع، وكذلك العملُ على تحسين النظام الغذائي لهم. قال تعالى وهو يعدد فضائل الأعمال: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)} [البلد: 14] والمسغبة هي الجوع.

وذلك لأن البدنَ الصحيحَ هو ميدانُ نشاطِ الروح والعقلِ والقلب، فالعقلُ السليمُ في البدن السليم كما قالوا، ولذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإطعامَ وطردَ شبحِ الجوع من أفضل الأعمال في الإسلام، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ...» الحديث. فمحاربةُ الجوعِ من أهم الأعمال، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ -أيْ أَيُّ الأعمالِ في الإسلامِ أفضل؟- فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». 

ولا شك في الارتباط الوثيق بين ضعفِ هذا الجانب وأفولِ مظاهرِ العمارة في البيئات التي تطاردُها أشباحُ الجوع وسوءُ التغدية.

ثم إن العملَ في مجال محاربةِ الجوع ودعمِ التغذيةِ في الشريعة الإسلامية عملٌ يشملُ كلَّ البشرِ على اختلاف أديانهم ومذاهبِهم ومواقفهم، فقال تعالى مادحًا عبادَهُ الصالحين بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} [الإنسان: 8 - 12] فشملت هذه الآياتُ تقديمَ هذا الحقِّ للأسير الذي جاء محاربًا، والمسكينِ واليتيمِ الذين لا يُرجى منهم مكافأةُ هذا الجميل. مما يؤكد أنه عملٌ جليلٌ يجب أن تكون النيةُ فيه خالصةً لله تعالى. بل إن أمرَ الإطعامِ يتعدى كلَّ ذلك في الشريعة الإسلامية ليشملَ كلَّ كائنٍ حيٍ يحتاجُ إلى الغِذاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».

كما حث الإسلامُ على أن تكون عمليةُ التغذيةِ صحيةٌ ومفيدةٌ، لأن البناءَ يبدأُ بالغِذاء الصحيح، وقد قال اللهُ تعالى حاكيًا عن أصحاب الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] فالطعامُ الزكيُّ لا يُشترطُ أن يكونَ مرتفعَ السعرِ ولكنه الطعامُ الجيدُ النظيف، الذي يؤدي دورَهُ في دعم البدنِ من حيثِ القيمة الغِذائية، فَيُقَوِّمَ أَوَدَهُ ويساعدُهُ على النمو على النحو المطلوب، وإذا تلقى البدنُ الغِذاءَ الصحيحَ فإنه يتمكنُ من القيام بسائر مهامه التي كلفه اللهُ تعالى بها، ومن ثَمَّ تبرزُ الأهميةُ الكبرى لهذه القضيةِ وللمعتنين بها، وهذا يتطلبُ عملًا تثقيفيا متميزا لتعريف المخاطَبين بفوائد الأغذية كمًّا وكيفا.  

وإن من أهم أسباب وجود أزماتٍ في توفير الغذاء الجيدِ هو عدمُ الاقتصاد، فقد بات أمرُ التبذير في الغذاء وإهدارُ الطعام في بلاد كثيرة واضحا، وقد أدى ذلك إلى مفاسدَ كثيرةٍ منها قلةُ وصولِ الغذاء إلى الأماكنَ الأكثرِ احتياجا، ولذلك حذرنا الحقُّ سبحانه وتعالى من الإسراف والتبذير، ودعانا إلى الاقتصاد والترشيد فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31]

وقال أيضا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27]. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ».

ويتضح من خلال بعض النصوص التي استشهدنا بها ذلك الأثرُ الكبيرُ للصدقة في دعم الإطعام والتغذية الجيدة، في المحيطين المحلي والإقليمي والعالمي، فالزكاةُ والصدقة تشريعان عظيمان في الإسلام يعملان على سدّ أوجهِ الحاجةِ للإنسان وعلى رأسها مسألةِ الغذاء.

فعلى الجهاتِ المختصةِ والحكوماتِ والأممِ المتحدةِ أن تُزيدَ من اهتمامها بهذه القضية، لا سيما بعد تراجعِ الأوضاعِ الاقتصادية في كثير من الدول، بسبب جائحةِ الكورونا، مما أثر على جودة التغذية في أماكنَ كثيرةٍ أو انعدامِها في أماكنَ أخرى.

وكذلك على الجهاتِ التي تعملُ في هذه المشروعات أن تعتنيَ بمسألة تحري أحوالِ المحتاجين والمخاطَبين حرصًا على وصول الغذاء الصحيح إليهم، ولنتمكنَ أيضا من عملية التثقيف الغِذائي بشكل ناحج.

نسأل اللهَ تعالى أن يرزقنا شكرَ نِعَمِهِ علينا بالحفاظ عليها، وبمد يد العون على بصيرة لكل محتاج، فقد قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الناسِ أنفعهم للناس".

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.